الاثنين، 7 أغسطس 2017

ماهية الفخ

قرأت قصة (الكاتدرائية) لـ (ريموند كارفر) منذ فترة طويلة ثم أدركت بعد إعادة قراءتها مؤخرًا أكثر من مرة  أن الزمن لم يؤثر في استجابتي الأولى لها؛ فالفخ الذي وضعه (كارفر) داخل هذه القصة كنت سأنصبه أنا في مكان آخر .. هذا الاختلاف لا يتعلق بما يمكن أن يُوصف بالاستناد إلى مبادئ عامة بـ (عيوب الصنعة)، والتي يمكن أن تثير غضب آباء صارمين مثل (روي بيتر كلارك)، أو (فيرلين كلينكنبورج) .. يحق لـ (ريموند كارفر) أن يزهو بـ (آثامه) المرتبطة باستخدام الحال، والعبارات الطويلة، والتكرارات، وحروف العطف، ليس فقط لأن المحاذير التقليدية ينبغي أن تتبدد أمام الضرورات الجمالية، بل لأن الطمس الهازئ أيضًا لوهم هذه السلطة يمثل في حد ذاته أحد الأورجازمات العظيمة في الكتابة .. لكنني ـ ودون أن أعتبرها عيوبًا في القصة كأي أب صارم ـ حددت لخطواتي مسارًا أكثر إلهامًا بالتخلص مما اعتبرته ـ بشكل غير مطلق ـ الثرثرة السابقة للحظة ذهاب الزوجة إلى محطة القطار لإحضار صديقها الأعمى .. لم أكن في حاجة لمعرفة أنه كان للأعمى زوجة ميتة، وأنه كان في زيارة عند أقربائها في (كونيتيكيت)، وأنه اتصل من بيت حميه بالزوجة، وأنهما كانا يتبادلان أشرطة صوتية عبر البريد، وأنه كان لهذه الزوجة حبيبًا سابقًا منذ أيام الطفولة كان لا يزال طالبًا في مدرسة الضباط، وأنهما كانا مفلسين، وأنه كان للأعمى مكتبًا صغيرًا في دائرة الخدمات الاجتماعية، وأن الزوجة تزوجت حبيبها الذي أصبح ضابطًا رفيعًا، وانتقلت معه من (سياتل) .. كنت أريد فقط الحصول على بعض الإشارات المقتضبة التي لا تشيّد (عناصر حاسمة) بقدر ما تقدم على نحو خافت (إيحاءات) عن طبيعة ما جديرة بالتخيّل، وليس الإدراك .. أتحدث عن ذلك الفرق الذي دائمًا ما يكون محورًا للنقاش في تدريس القصة القصيرة بين (المعلومات اللازمة) التي تقود إلى حياة غير معلنة، و(الحياة المعلنة) التي لا تمنح معلومات لازمة .. على أن الأمر ـ وسأستمر في التأكيد على هذا ـ نسبي تمامًا، لأنني حينما أعتبر أن (التفاصيل الضرورية) تقتصر فحسب على أن الزوجة كانت تعمل عند الأعمى، وأن الزوج يكره العميان فإنني أفكر في انحياز ذاتي تمامًا، يلائم ويجهّز للإخفاء الأهم الذي كنت سأمارسه لو كنت كاتب هذه القصة، وأقصد به تحسس الأعمى لوجه الزوجة ورقبتها، وأنها حاولت كتابة قصيدة عن ذلك.
(طلبَ الأعمى أنْ يلمس وجهها، فوافقتْ! وأخبرتْني أنه مرّر أصابعه على كامل أجزاء وجهها، حتى أنفها ورقبتها!، كما أنها حاولتْ أن تكتبَ قصيدةً عن ذلك، فهي دائماً تحاول أن تكتب قصيدة، وكانتْ تكتب قصيدة أو قصيدتين كل عام، غالباً بعد حدوثٍ أمرٍ مهمّ في حياتها.
عندما بدأنا نخرج معاً – أنا زوجتي، أرتْني القصيدة، في القصيدة كانت تسترجعُ أصابعَهُ والطريقةَ التي مرّرها بها على كامل وجهها، وفي القصيدة أيضاً تصفُ مشاعرها في تلك اللحظات، وما جالَ في ذهنها عندما كان الأعمى يلمسُ أنفها وشفتيها. أذكرُ أنني لم أُعِـرْ اهتماماً للقصيدة، بالطبع لم أخبرْها بذلك، ربما لأنني لا أفهمُ الشعر، وعادةً لا أمدُّ يدي إلى كتبِ الشعر عندما أنوي القراءة(.
هذه هي المعلومة التي كانت جديرة بالاختفاء بالنسبة لي في بداية القصة، وهي التي كان ينبغي الكشف عنها ـ بعد التخلص من دفعة جديدة من الثرثرة المقترنة بتناول العشاء ـ عند إغفاءة الزوجة الجالسة بين الأعمى وزوجها بثوب النوم الوردي بعد تدخين الماريجوانا، ثم انحسار الثوب عن فخذها (الشهي) .. لماذا كان يجب على الزوج أن يتذكر تحسس الأعمى لوجه الزوجة ورقبتها في الماضي عند هذه اللحظة تحديدًا، والتي مد فيها يده ليغطي ساقيها قبل أن ينكشف فخذها مجددًا؟ .. تتحرك القصة منذ البداية داخل سياقات محددة: زوج منزعج من زيارة الصديق القديم لزوجته نتيجة خبرة غير جيدة بالعميان .. زوجة تتصرف كما يليق بصديقة مثالية  .. أعمى يبدو أنه يمتلك من الحياة ما يتجاوز توقعات الزوج .. هذه السياقات يضمن توترها ـ الحسي بشكل أخص ـ الوصول إلى غاية شهوانية .. لدينا ما يشبه مثلث الحب المألوف، ولكن في وضعية غير تقليدية من التواطؤ الشبقي الغريب بين أطراف يحمل كل منها هوية مختلفة .. كان (كارفر) واعيًا بذلك، ولم يكن مرغمًا على الإفصاح عنه بل كان عليه فقط أن يجعل الزوجة ترتدي ثوب النوم الوردي، وأن تجلس بين الزوج وصديقها الأعمى، وتدخن الماريجوانا ثم تغفو وينكشف فخذها .. هنا كان يجدر بالمصيدة الخبيثة أن تكتمل بالإعلان عن المفاجأة التي لم تأت أي إشارة لها من قبل، وهي أن الزوج يتذكر الآن عند ظهور فخذ زوجته أنها سبق وأخبرته بتحسس الأعمى لوجهها ورقبتها، وأنها حاولت كتابة قصيدة عن ذلك، تسترجع فيها أصابعه، والطريقة التي مررها بها على كامل وجهها، ومشاعرها في تلك اللحظات، وما جال في ذهنها عندما كان الأعمى يلمس أنفها وشفتيها .. هنا تبدأ الممارسة بين الأعمى الذي يدخن، والزوجة الغافية، والزوج الذي يتأمل فخذها المكشوف .. لكننا في حاجة أيضًا إلى معلومة صغيرة، ولكنها أساسية، سيكون مناسبًا أن يفصح الزوج عن تذكره لها الآن، وهي أنه لم يسبق له أبدًا أن مارس الجنس مع زوجته بعينين مغمضتين.
لنترك الكاتدرائيات المعروضة في التليفزيون، ولنجعل الأعمى يشعر بالرغبة في التوجه إلى السرير الذي أعدته الزوجة لينام بدلا من أن يطلب من الزوج أن يصف له الكاتدرائية .. لنجعل الزوجة تستيقظ، وتقود الأعمى إلى السرير ثم تتوجه مع زوجها إلى حجرتهما بدلا من المحاولة الفاشلة للزوج في وصف الكاتدرائية للأعمى .. لنجعل الزوج يقرر ممارسة الجنس مع زوجته بعينين مغمضتين للمرة الأولى في حياتهما بدلا من أن يسأله الأعمى (هل أنت رجل مؤمن؟) قبل أن يغلق هذا الأعمى قبضته على يد الزوج التي تمسك بالقلم ويحركها لرسم كاتدرائية تحوي بشرًا فوق كيس ورقي كبير .. لنجعل الأعمى يشعر بالرعشة الجنسية وهو نائم وحده في سرير مجاور لحجرة الزوجين اللذين يمارسان الجنس في هذه اللحظة.
تدور فكرة قصة (الكاتدرائية) كما كتبها (ريموند كارفر) عن الإيمان: (هل أنت مؤمن؟) .. حسنًا .. (سأجعلك ترسم كاتدرائية وأنت مغمض العينين) .. زوج لديه بصر قاصر يدفعه لاتخاذ موقف عدائي من الأعمى الذي يمتلك (بصيرة) .. شخص لا يرى (غير مؤمن بأي شيء)، ويحتاج لإغماض عينيه كي يتمكن من الرؤية بقلبه أو بروحه ـ أيًا يكن ـ أي أن يتأمل جوهر الحياة غير المحدود، الكامن وراء الضلالات المزيفة للوعي .. أن يصبح ـ ببساطة ـ شخصًا مؤمنًا.
(أبقيتُ عينيّ مغمضتين، كنتُ في بيتي، أعرفُ ذلك، لكنني لم أشعرْ أنني في أيّ مكان، وقلتُ: "إنها حقاً جميلة!". ).
كم مرة رأينا أو سمعنا أو تخيلنا شخصًا يقبض على يد آخر أعمى، أو مغمض العينين، ويرسم بها، أو يمرر أصابعه فوق حروف بارزة ليقرأ عبارات معينة، أو يختبر قدرته على التوصل لطبيعة شيء يتحسسه في لعبة ما؟ .. لنتذكر ما قام به المخرج البلجيكي (جاكو فان دورميل) في فيلم (اليوم الثامن) حينما جعل (جورج) صديقه (هاري) يستلقي بجواره على العشب، ويغمض عينيه مثله لمدة دقيقة واحدة من الصمت، ويخبره أنه حين يتخيل نفسه يحتضن شجرة سيصبح شجرة، وحين يفكر في نحلة سيصبح نحلة، وحين يفكر في أحبابه حتى الموتى منهم سيجدهم جالسين معه ويطبطبون عليه.
تدور فكرة قصة (الكاتدرائية) كما كتبتها أنا عن فقدان الثقة في كل ما سبق ونقيضه .. في البصر والبصيرة .. في العينين والقلب .. في الشهوة الملغزة للحياة، التي يعيش فيها العميان والمبصرون داخل بعضهم البعض، والقادرة عند أي لحظة على ألا تكون جميلة ـ على الأقل ـ مهما رسمت من كاتدرائيات.
قارن بين الاحتمالات المختلفة للمسارات التي يمكن أن تتخذها قصتك خصوصًا تلك التي قد تبدو مناقضة لما تصورته (معنى) أساسيًا لها .. حاول أن تكتشف ماهية الفخ الملائم لكل احتمال، كيفية تجهيزه، موعد الكشف عن الإغراء المباغت الذي سيقود إليه، الطريقة التي سيتم بها الإفصاح عن هذا التحريض .. اجعل الاحتمال غير التقليدي هو أكثر المسارات جدارة بالتأمل، التحوّل المفاجئ، غير المتوقع، الصادم بشكل ما، الذي لا يعيد تدوير الإيمان، بل يحفر ـ بمنتهى المرح المناسب ـ جرحًا شخصيًا جديدًا في الثقة القديمة.